يحاول الباحث في هذا الكتاب أن يجيب – كما أوضح في مقدمته – عن السؤال: “هل مفهوم السلف يعبّر عن جماعة حقيقية أم متخيّلة؟”؛ إذ دائمًا ما يُحتَجُّ بالسلف الصالح وأفعالهم على الإطلاق، من دون تمييز بين متفق عليه وهو موطن إجماع، ومختلف فيه وهو محل نظر واجتهاد. ويتخذ الكاتب ما يسمّيه “سلف المحنة” أنموذجًا لدراسته، ويعني المؤلف بـ “سلف المحنة” السلف الذين احتجّ بهم الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن، كما يعني بهم كذلك أحمد بن حنبل ذاته من حيث هو نفسُه سلفٌ لأهل السنة باختلاف مذاهبهم الفقهية.
يتكون الكتاب (450 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من مقدمة، وتمهيد، وبابين؛ يتألف أولهما من فصلين، والثاني من ثلاثة فصول.
في السلف ومفهومه
في مقدّمة الكتاب، يوضح السمهوري أهدافه من الكتاب، ويستعرض منهجه فيه، والأسئلة التي يروم الإجابة عنها، مبينًا أن معنى المتخيّل ليس هو الكذب والدجل، لكنه “إعادة التمثل”، و”إعادة الإنتاج”، و”الإسقاط”، “والانتقاء”، بحسب الأحوال والظروف والسياقات، منبهًا إلى أهمية الجانب التاريخي في دراسة الأفكار والمذاهب والعقائد، ومشيرًا إلى أن المحنة (أي محنة خلق القرآن) لم تكن دينية الاتجاه، وإن لبست لبوس المذاهب والعقائد، لكنها، بحسب وجهة نظره، نتاج صراع اجتماعي – سياسي، بين العرب/ بغداد/ الأمين، والعجم/ خراسان/ المأمون، مثنّيًا بتناول أهم الدراسات والكتب التي تناولت شخصية أحمد بن حنبل، والحنابلة، ويوجه فيها نقده لما يستحق النقد.
ينتقل المؤلف بعد هذا إلى تمهيد بعنوان “مفهوم السلف: قراءة دلالية تاريخية”، خصصه لبحث معنى “السلف” في اللغة والاصطلاح، مؤرخًا بداية ظهوره وانتشاره ومعانيه وموطنه من “الاحتجاج الديني”، معتمدًا على التفريق الأصولي (أي في منهج أصول الفقه الإسلامي) بين ما هو “إجماع” قطعي معتدّ به شرعًا وواجب الالتزام، وما يقع في دائرة الاختلاف السائغ الاجتهادي، وكيف يجري الخلط بين هذين النوعين من الاحتجاج تحت غطاء “السلف”. ويعرّج على مفهوم “خير القرون”، مثبتًا أن هذه الخيرية هي خيرية أخلاقية مستشهدًا بالنصوص الشرعية وأقوال الفقهاء والمحدّثين.
الطريق إلى سلف المحنة
في الباب الأوّل، “رحلة المتخيل: في الطريق إلى سلف المحنة”، يسيح السمهوري سياحة تاريخية في أبرز الحوادث التاريخية التي سبقت المحنة في الفصل الأول الذي عنونه “عصر بني العباس: الدعوة والدولة”، وأن الدولة العباسية نشأت بدافع من الثأر الذي يلفت الانتباه وروده بكثافة في كتب التاريخ على ألسنة العباسيين ودعاتهم، أي الثأر من الأمويين ومن كل ما يمثلهم، ليفيض في شرح بدء انطلاق الدعوة العباسية في خراسان التي كانت موطن الدعوة العباسية وشيعتها، وفيها ظهر شعارهم الرسمي “الرايات السود واللباس الأسود”، وأن دعوتهم كانت تقوم على “التشيع” لآل البيت، مع شيء من مذهب الجهم بن صفوان الذي كان داعية من دعاة العباسيين، مع ميل إلى فقه الرأي.
في مقابل ذلك، يتحدث عن بغداد وعن سلطة أهل الحديث فيها وظهور مصطلح “أمير المؤمنين في الحديث”. فلئن كانت خراسان هي أرض الدعوة العباسية التي انطلقت منها وكان فيها أنصارها ودعاتها وأولياؤها، فإن بغداد هي موطن أهل الحديث وعاصمتهم، وكان لهم فيها المنعة والقوة والتأثير، في سرد تاريخي يستعرض أهم الحوادث حتى وقت الفتنة بين المأمون (كان في خراسان، وأمه خراسانية، وأخواله خراسانيون، ومال إلى مذهب التجهّم في العقائد، والرأي في الفقه)، وأخيه الأمين (أمه عربية هاشمية هي زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، ومال إلى مدرسة أهل الحديث). يصل المؤلف بعد هذا السرد إلى محنة خلق القرآن ودور أحمد بن حنبل فيها، بوصفه من أعلام مدرسة أهل الحديث وأئمتها.
يؤرخ السمهوري في الفصل الثاني، “لحظة الانفجار وبداية نشوء سلف المحنة”، بداية المحنة وإرهاصاتها في عهد المأمون، ثم اشتدادها في عهد المعتصم، ثم تفاقمها في عهد الواثق، مسلطًا الضوء على موقف أحمد بن حنبل وصموده، معتمدًا على الروايات التاريخية الحنبلية التي رواها شهود العيان من أقدم المصادر المتاحة، ومقارنًا بينها وبين روايات المعتزلة.
ابن حنبل وابن حنبل المتخيّل
ينتقل الباحث إلى الباب الثاني، “سلف المحنة: أحمد بن حنبل وأحمد بن حنبل المتخيّل”، ليبين الفروق بين الروايات الأولى للمحنة في عصرها، ثم كيف أضيفت إليها روايات تعتمد الخوارق والمبالغات كلما امتدّ الزمن، معتمدًا على المنهج الحديثي لعلماء محدثين كبار من أمثال الذهبي ومحمد بن إبراهيم الوزير ليبين الصحيح من المكذوب في سرد أخبار المحنة.
في الفصل الثالث، “أحمد بن حنبل وتأسيس سلف المحنة”، تناول المؤلف شخصية أحمد بن حنبل وأهم صفاته، كما تناول مشروعه العلمي، وأهم معالم منهجه في الفتاوى والاستنباط، وموقفه من المختلفين مذهبيًا من الفرق المخالفة؛ كالمرجئة، والشيعة، والجهمية، وغيرهم.
في الفصل الرابع، “تأبيد سلف المحنة: أحمد بن حنبل المتخيّل”، عمد الكاتب إلى تأريخ بداية نشوء وضع الأخبار الخيالية على أحمد بن حنبل، مما لا يصحّ حديثيًا، ونسبة أقوال في العقيدة إليه ليست مما يمكن الجزم به، مسلطًا الضوء على كتابين اعترض عليهما بعض كبار المحدثين؛ كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والرسالة الموسومة “باب القول في المذهب” التي ألفها حرب بن إسماعيل الكرماني، وهي منسوبة إلى أحمد بن حنبل، لكنه ليس مؤلفها. هذان الكتابان مصدران لأحمد بن حنبل متخيّل، ليس بحقيقي.
وفي الفصل الخامس والأخير، “تعدد المتخيل: مرحلة البربهاري وما بعده إلى ما قبل ابن تيمية”، يرصد الكاتب تطورات المذهب الحنبلي، واختلاف الحنابلة في فهم كلام الإمام أحمد بن حنبل في العقائد، فالحنابلة تيارات متعددة، وبينهم اختلافات في باب العقائد، وهناك من يعتمد منهج التفويض، وهناك من يعتمد منهج التأويل، وهناك من يقبل ظواهر النصوص. كما يرصد الباحث علاقة الحنابلة بالتصوّف، وبعلم الكلام.
موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: http://www.dohainstitute.org